الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضل له، ومن يُضلل فلن تجد له ولّياً مرشداً، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ، أو سمعت أُذُنٌ بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين أُمناء دعوته وقادة ألويته و ارضَ عنّا وعنهم يا ربَّ العالمين.
اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القُربات.
رسول الله صلى الله عليه وسلم أجوَد الناس في رمضان:
أيُّها الإخوة الكرام: نحن في شهر الصوم، نحن في رمضان، فعن عبدالله بن عباسٍ رضي الله عنهما قال:
(( كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أجودَ الناسِ بالخيرِ، وكان أجودَ ما يكون في شهرِ رمضانَ حتى ينسلِخَ، فيأتيه جبريلُ فيعرضُ عليه القرآنَ، فإذا لقِيَه جبريلُ كان رسولُ اللهِ أجودَ بالخيرِ من الرِّيحِ الْمُرسَلَةِ ))
أيُّها الإخوة: في أول آيةٍ من سورة البقرة، بسم الله الرحمن الرحيم:
﴿ الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)﴾
من هُم المُتَّقون؟
﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)﴾
هذه عقيدة.
(وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) عبادة.
(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) ثلث خصائص المؤمن أنه ينفق.
إنفاق المؤمن للمال بدافع حبّه لله:
إلا أنَّ هذا الإنفاق على نوعين، وضَّحته الآية الكريمة:
﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)﴾
دققوا الآن: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) بدافع محبته لله، أو على الرغم من أنه يُحب المال (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ)
الزكاة فرض تُطهِّر الغني من الشح و الفقير من الحقد:
الآن دققوا: (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ) إيتاء الزكاة إنفاق، وإنفاق المال على حُب الله إنفاق، الاثنان فرض، قال تعالى:
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(103)﴾
معنى تُطهرهم أي تُطهِّر الغني من الشُح، والشُح كيف أنَّ في الجسم مرضاً خبيثاً، في النفس مرضٌ خبيثٌ آخر هو الشُح، لقوله تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)﴾
فالزكاة تُطهِّر الغني من الشُح والفقير من الحقد، وتُطهِّر المال من تعلُّق حقّ الغير به، (وَتُزَكِّيهِم) تُنمّي نفس الغني، يرى عمله انقلب فرحةً وابتسامةً وحبوراً لمن أعطاهم، وتُزكّي نفس الفقير يرى أنَّ مجتمعه لم يكن غافلاً عنه، اهتمَّ به، وتُزكّي المال بطريقتين بطريقةٍ وفق قواعد زيادة المال، فالفقير حينما تساعده يملِك قوةً شرائيةً يشتري بها من عند الغني، فيزداد ماله مع أنه أنفق من ماله جزءاً، ويزداد المال بطريقة العناية الإلهية.
الإنفاق الطوعي و الإنفاق القصري:
فآية الزكاة أصلٌ في الإنفاق وهو إنفاق الفرض، بينما: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ) هذا الإنفاق الطوعي، ولعلَّ الإنسان يرقى بالإنفاق الطوعي أضعاف ما يرقى بالإنفاق القصري، لأنَّ الله عزَّ وجل يقول:
يقولُ اللَّهُ تبارك وتعالى:
(( ما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أفضل من أداء ما افترضتُ عليْهِ، وما يزالُ يتقرَّبُ عبدي إليَّ بالنَّوافلِ حتَّى أحبَّهُ، فإذا أحببتُهُ كنتُ سمعَهُ الَّذي يسمعُ بِهِ، وبصرَهُ الَّذي يبصرُ بِهِ، ويدَهُ الَّتي يبطشُ بِها، ولئن سألني لأعطينَّهُ، ولئن دعاني لأجيبنه، ولئن استعاذَني لأعيذنَّهُ، وما تردَّدتُ عن شيءٍ أنا فاعلُهُ تردُّدي عن نفسِ المؤمنِ، يَكرَهُ الموتَ وأَكرَهُ مساءتَهُ ))
[ أخرجه البخاري والبيهقي ]
أيَّها الإخوة الكرام: أول شيء هناك قاعدة في الإنفاق: الأقربون أَولى بالمعروف ، بعض العلماء فسَّر الأقربين القريب نسباً، والقريب إيماناً، والقريب فقراً، إذا تساوى اثنان في القرابة أَعطي الأفقر، إن تساوى اثنان في الإيمان أَعطي الأقرب نسباً إليك، ثلاثة مُرجِّحات للإنفاق، أَعطي الأقرب إلى الإيمان لأنَّ هذا المال سينفقه في طاعة الله، أَعطي الأقرب نسباً لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام بيَّن أنَّ زكاة الغني لا تُقبَل وفي أقربائه محاويج، لأنَّ الغريب أنت له وغيرك له، أمّا القريب من له غيرك؟ هناك مُرجِّح الفقر، أَعطي الأفقر، هناك مُرجِّح القرابة أَعطي الأقرب، هناك مُرجِّح الإيمان أَعطي الأكثر إيماناً، لأنه سينفق هذا المال في مرضاة الله.
﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ۖ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)﴾
هذه مُرجِّحات الإنفاق، لكن كحقيقةٍ مُطلَقة:
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)﴾
ما زاد عن حاجتك، من زاد عن حاجتك ينبغي أن يكون سُلَّماً إلى الآخرة، طريقاً إلى مرضاة الله عزَّ وجل.
ارتباط الإنفاق بالحياة الدنيا:
البطولة أنَّ الإنفاق ليس مفتوحاً، مرتبط بحياتك الدنيا فسارع إلى الإنفاق، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)﴾
إمّا أن تُنفِق في الوقت المناسب، أو بعد هذا الوقت ليس هناك إنفاق، هناك جزاءٌ ولا عمل، ونحن في دار عمل لا جزاء.
أيُّها الإخوة الكرام: مرَّ النبي عليه الصلاة و السلام بقبرٍ فقال:
(( رَكْعتانِ خَفيفتانِ بِما تَحقِرُونَ وتَنفِلُونَ يَزيدُهما هذا في عملِهِ أحَبُّ إليه من بقيَّةِ دُنياكُمْ ))
[ أخرجه ابن مبارك في الزهد وابن أبي شيبة في المصنف والطبراني في المعجم الأوسط ]
إنسان معه ملايين مُملينة يملِك شركة رابحة جداً، إلى ركعتين ويُقاس على ذلك، والمؤمن إلى درهمين ينفقهما في حياته، أفضل من مئة ألف درهمٍ أوصى بها ولا تُنفَق بعد مماته، صدِّقوا أيُّها الإخوة عندي أكثر من عشرة وصايا لم تُنفَّذ واحدة، هناك من ترك لأهله أموالاً كثيرة، ضنوا عليه بمبلغٍ يسير أوصى به بعد موته، درهمٌ تنفقه في حياتك، خيرٌ من مئة ألف درهمٍ يُنفَق بعد مماتك.
من يُنفِق ماله في سبيل الله يكرمه الله في الدنيا قبل الآخرة:
الشيء الذي لا يُصدَّق أو يُصدَّق واسألوا من يُنفِق حول هذه الآية:
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)﴾
والله أيُّها الإخوة: خلال أسبوعين سابقين، حدَّثني إخوةٌ كرام، والله بكيت من تأثُّري بهذه القصص، أنفق مبلغاً في سبيل الله دون أن يعلم به أحد، عشر أضعاف أكرمه الله بها في الدنيا قبل الآخرة، لذلك: (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) .
1 ـ إن فعلت معروفاً ينبغي أن تنساه نهائياً وإن فعل معك أحد معروفاً ينبغي ألا تنساه:
الإنفاق له آداب:
﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ۙ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)﴾
إن فعلت معروفاً ينبغي أن تنساه نهائياً، وإن فُعِلَ معك معروفٌ ينبغي ألّا تنساه ما حييت، هذه أخلاق المؤمن (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) .
2 ـ عدم إنفاق الإنسان ماله كله كي لا يهلك:
والله عزَّ وجل لا يريدنا أن نُنفِق كل أموالنا، ولم يقبل النبي عليه الصلاة والسلام مال صحابيٍ كله إلا من الصدّيق استثناءً:
(( أمرَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أن نتصدَّقَ فوافقَ ذلِكَ عندي مالًا فقلتُ اليومَ أسبقُ أبا بَكرٍ إن سبقتُهُ يومًا قالَ فَجِئْتُ بنِصفِ مالي فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ما أبقيتَ لأَهْلِكَ قلتُ مثلَهُ وأتَى أبو بَكرٍ بِكُلِّ ما عندَهُ فقالَ يا أبا بَكرٍ ما أبقَيتَ لأَهْلِكَ فقالَ أبقيتُ لَهُمُ اللَّهَ ورسولَهُ قلتُ لا أسبقُهُ إلى شيءٍ أبدًا ))
[ أخرجه أبو داوود والترمذي والدارمي ]
لذلك:
﴿ وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)﴾
إن لم تنفقوا، (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) إن أنفقتم مالكم كله، هذه الآية تحتمل معنيين.
3 ـ الهدية تثبت العلاقة بين الإنسان وغيره:
شيءٌ آخر: أحياناً إنسان تكون العلاقة بينه وبين آخر ضعيفة فيُمتِّنُها بالهدية، الهدية تُقرِّب، تُثبِّت، دقق في هذا المعنى:
﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)﴾
يقول لك: فلان له مركزٌ قويٌ عند فلان، فلان العلاقة بينه وبين فلان متينةٌ جداً، أنت بالإنفاق تُمتِّن علاقتك مع الله، والله الذي لا إله إلا هو، عدد القصص التي أسمعها في هذه الدعوة، من إنسانٍ أنفق مالاً، وكيف أنَّ الله سبحانه وتعالى أكرمه بأضعافٍ مضاعفة، والله لكثرتها لا يتَّسِع المجال لذكرها.
4 ـ إنفاق الشيء الطيب الحلال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)﴾
تأدَّب مع الله، أنفق الشيء الذي تُحبه، أنفق الشيء الذي تأكله، أنفق الشيء الطيِّب، أنفق الشيء الحلال، أنفق الشيء الذي تتمنَّى أن تأكله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) .
ثم يقول الله عزَّ وجل: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) .
من أنفق ماله في سبيل الله أخلفه الله عليه أضعافاً مضاعفة:
الآن المُنفِق أمام آيتين، الآية الأولى:
﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)﴾
هذا كلام خالق السماوات والأرض، المعنى الثاني:
﴿ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ۗ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (270)﴾
ماذا بقي لك من مُثبِّطٍ في الإنفاق؟ الذي تنفقه يعلمه الله عزَّ وجل، والذي تنفقه يُخلفه الله عليك، يعلم ويُخلِف، والمؤمن يُنفِق ليلاً ونهاراً سرّاً وعلانيةً، في العسر وفي اليُسر.
﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)﴾
أحياناً الإنفاق العلني له فائدةٌ كبيرةٌ جداً، حينما أُلقي كلمةً في رمضان لاستنهاض هِمم المُحسنين، يأتي مبلغ فلكي، فلمّا ارتأى بعضهم في بعض الأعوام، أن نكتفي بإعطاء أوراقٍ للمُحسنين ليكتبوا تبرعاتهم، جاء المبلغ بما يساوي العُشر، لذلك:
﴿ إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)﴾
أحياناً إعلان الصدقة يحفز الهِمم، يُجري مسابقة.
من أنفق المال على شهواته و متعه الرخيصة خسر الدنيا والآخرة:
أمّا هؤلاء الذين ينفقون على شهواتهم، وعلى ملذاتهم، وعلى متعهم الرخيصة، هؤلاء ذَكرَهم الله عزَّ وجل فقال:
﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)﴾
أي:
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)﴾
إنفاق المال أحد وسائل القرب من الله عزّ وجل:
الآن كتعليقٍ على قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)﴾
إنفاق المال أحد وسائل القُربة من الله، يؤكِّد هذا المعنى قوله تعالى:
﴿ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ ۚ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ ۚ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (99)﴾
أَتُحب أن تتقرَّب إلى الله؟ أَتُحب أن تُصلّي وتبكي في الصلاة؟ أَتُحب أن تخشع في الصلاة؟ أَتُحب أن تقرأ القرآن فتنهمر دموعك؟ أَتُحب أن تقول أنا أسعد الناس في الأرض؟ أَتُحب أن تُحسّ بطعم القُرب من الله؟ أنفِق (وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ) .
قال تعالى:
﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ۩ (19)﴾
الصلاة قُربة، والإنفاق قُربة (قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ) .
الاستقامة سببٌ أساسي في قبول النفقة:
أيُّها الإخوة: أنا مُحرجٌ في هذا المعنى، النفقة تُقبَل إذا رافقتها استقامة، الآية مُخيفة:
﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)﴾
الإسلام منهجٌ كامل، استقم وأنفِق، أعرف أُناساً كثيرين يأخذون بكل المعاصي والآثام، ولهم إنفاقٌ كبير، الله عزَّ وجل يُعوُّض عليهم ما أنفقوا أضعافاً مضاعفة، لكن الذي ينبغي أن يكون، أن تكون مستقيماً، وأن تُضيف إلى استقامتك الإنفاق، حتى تنتفع بالإنفاق في الدنيا والآخرة (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ) .
الدال على الخير كفاعله:
الآن قد يتأثر أحد الإخوة الكرام، إنسانٌ مؤمنٌ طاهر، عفيف، نقي، مستقيم، لكنه فقير دخله لا يكفيه أسبوعين من الشهر، كيف يُنفِق؟ استمعوا لهذه الآية التي فيها جبرٌ لخاطر هؤلاء:
﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (91)﴾
(( إنَّكم لن تَسَعُوا النَّاسَ بأموالِكم ولكنْ يَسَعُهم منكم بسطُ الوجهِ وحُسنُ الخُلُقِ ))
[ أخرجه ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان ]
قال: (إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) بإمكانك أن تنصَح، أن تدعو إلى الله، أن تأمر بالمعروف، أن تنهى عن المنكر، أن تدل على الخير؟ كأنك أنفقت.
(( أتى النبيَّ صلى اللهُ عليهِ و سلمَ رجلٌ يستحملُه فلمْ يجدْ عندهُ ما يتحملُهُ فدلَّه على آخرٍ فحملَهُ فأتى النبيَّ صلى اللهُ عليهِ و سلمَ فأخبرَه فقال إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعلِه ))
لك قريبٌ فقير ولك قريبٌ آخر غني، فذهبت إلى الغني ولك مكانةٌ عنده، وأنت عنده صادق، قلت له: هذا الشاب بحاجةٍ إلى الزواج، ويحتاج إلى مبلغٍ مُعيَّن، وأنت ميسور الحال فما قولك أن تساعده؟ فقال لك: لا مانع كم يريد؟ تقول مئة ألف، قال لك: المبلغ جاهز، هل تُصدِّق أنَّ الله يكتُب لك هذه المئة ألف صدقةٌ منك؟ كلام النبي كلام المعصوم (الدالَ على الخيرِ كفاعلِه) .
آيةٌ قرآنية: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) .
من حزن لأنه لا يجد ما ينفق فهو عند الله كأنه أنفق:
الآن هناك حالةٌ أُخرى: إنسانٌ يبكي لأنه لا يجد ما يُنفِق، فهو عند الله كأنه أنفَق.
﴿ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)﴾
إذا تألمت لعدم الإنفاق، أٌقسِم لكم بالله حينما ترى المسلمين يُعذَّبون وتبكي وتتألم، لعلَّ هذا البُكاء والألم يرقى إلى مستوى الجهاد، لا تتمكن أن تنصرهم لكنك تنتمي إلى هذه الأمة، تتألم أشدّ الألم، لذلك الندم فضيلةٌ بالإنسان.
على الإنسان أن يمتحن نفسه هل يسعد بالإنفاق أم بالأخذ:
اسأل نفسك هذا السؤال: ما الذي يُسعدك أن تُعطي أم أن تأخُذ؟ إن كان الذي يُسعدك أن تُعطي أنت من أتباع الأنبياء، وإن كان الذي يُسعدك أن تأخُذ أنت من أتباع أهل الدنيا، لذلك:
﴿ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(98)﴾
يرى الإنفاق حمقاً، غباءً، تفريطاً بالمال، دقِّق هل يُسعدك أن تُعطي؟ امتحِن نفسك، تدبَّر هذه الآية، هل يُسعدك أن تُعطي أم أن تأخُذ؟ (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا) هل الإنفاق عندك مغرمٌ أم مغنم؟ المؤمن الإنفاق عنده مغنم، وغير المؤمن مغرم.
حدَّثني أخٌ قال لي: معي ابني وكنّا في رمضان، أردت أن أُعلِّمه أن ينفق المال، أعطيته مئة ليرة وقلت له: ادفعها لهذا الفقير، والله عزَّ وجل يُكافئُنا عشرة أضعاف، أراد الأب أن يُشجِّع ابنه وأن يُغريه بالعمل الصالح، هذا الطفل صغيرٌ جداً، دفع المئة ليرة وقال له أين الألف؟ قال له: أنا دفعتها وليس أنت، هكذا تصوَّر الطفل، أقسم لي بالله مشى عشر دقائق، التقى بصديقٍ له سلَّم عليه، هذا الصديق نظر إلى ابن صديقه فحمله وقبَّله، وأخرج من جيبه ألف ليرةٍ وقال هذه لك، الله عزَّ وجل راعى الطفل، لأنَّ أباه قال له المئة بعشرة، فالله ألهَم صديق الأب أن يُعطي هذا الابن ألف ليرة، والله عزَّ وجل أقول لكم: الذي يشدّك إلى الدين معاملة الله لك، لا أقول لك جرِّب لأنَّ الله لا يُجرَّب، لكن لا تبخل.
(( أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم دخل على بلالٍ وعنده صُبْرَةٌ من تَمْرٍ، فقال: ما هذا يا بلالُ ؟ قال: شيءٌ ادَّخَرْتُهُ لِغَدٍ، فقال: أَمَا تَخْشَى أن تَرَى له غَدًا بُخَارًا في نارِ جهنمَ يومَ القيامةِ؟ أَنْفِقْ بلالُ ولا تَخْشَ من ذِي العرشِ إِقْلالًا ))
[ الألباني هداية الرواة ]
لكن الناس يعيش فقيراً ليموت غنياً.
توعد الله عزَّ وجل من يكنز المال بالعذاب الأليم:
والله سمعت كلمةً تهز أعماق الإنسان، صديق إنسانٍ متوفَّى التقى بابنه، قال له إلى أين أنت ذاهب؟ قال: ذاهبٌ لأشرب الخمر على روح أبي! يعيش المرء فقيراً ليموت غنياً.
(( حَتَّى إِذَا حُمِلَ اَلْمَيِّتُ عَلَى نَعْشِهِ رَفْرَفَ رُوحُهُ فَوْقَ اَلنَّعْشِ وَ يَقُولُ يَا أَهْلِي وَ يَا وُلْدِي لاَ تَلْعَبَنَّ بِكُمُ اَلدُّنْيَا كَمَا لَعِبَتْ بِي جَمَعْتُ اَلْمَالَ مِنْ حِلِّهِ وَ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ فَالْمَهْنَأُ لِغَيْرِي وَاَلتَّبِعَةُ عَلَيَّ فَاحْذَرُوا مِثْلَ مَا حَلَّ بِي ))
[ بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار علیهم السلام ]
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)﴾
الدنيا دار ابتلاء و عمل لا دار جزاء وتشريف:
ثم يُطمئنُنا ربُّنا عزَّ وجل قال: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) لكن هناك أُناسٌ يتصرفون تصرفاً عجيباً، يقول لك: لا يكفي العباد إلا الله، الله عزَّ وجل خلقه وهو يتولاه، أنا لا علاقة لي! اسمع الآية:
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)﴾
الله عزَّ وجل خلق الفقير لترقى به، وخلق الغني ليرقى بالفقير، نحن في دار عمل، دار ابتلاء، الفقير مُبتلى بالفقر، والغني مُبتلى بالغنى، والبطولة أن تنجح في امتحان الغنى وامتحان الفقر، لكن أحياناً يقول لك شخصٌ يملِك ملايين مُملينة: سيدي هذه السنة كم الزكاة؟ تقول له خمسين ليرة، عنده ثمانية أولاد إذاً أربعمئة، لا، أنت عليك الزكاة عشرة آلاف، الله عزَّ وجل قال:
﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)﴾
الزكاة فرض على كل إنسان ليذوق طعم الإنفاق:
الغني ليس له الحق بأن يأخُذ الحد الأدنى، هذا الحد الأدنى للفقير، لأنَّ الله عزَّ وجل حينما فرض علينا زكاة الفطر، فرضها على كل مسلمٍ صغيراً كان أم كبيراً، غنياً كان أم فقيراً، ذَكراً كان أم أُنثى، فرضها على من يملِك قوت يومه، وجبة طعام واحدة، لماذا؟ قال: الله عزَّ وجل أراد بهذه الزكاة "زكاة الفطر" فضلاً عن أنها طُهرةٌ للصائم وطُعمةٌ للمسكين، أراد أن تذوق طعم الإنفاق مرةً في العام، أفقر إنسانٍ لا يوجد في بيته إلا وجبة طعام واحدة، عليه صدقة فطر، ليذوق الفقير طعم الإنفاق، الإنفاق له طعم، لذلك: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) وعلى قدر سعته (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) هذه الآية توضِّح، هناك نسبة.
المال الذي عندك ليس مالك إنما هو مال الله:
ثم يقول الله عزَّ وجل:
﴿ هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)﴾
أيُّها الإخوة: حينما تعتقد أنَّ المال الذي عندك ليس مالك إنما هو مال الله، وأنت مُستخلَفٌ فيه، ويدك عليه يد الأمانة، فأنت فقير، سألوا أعرابياً: لمن هذه الإبل؟ قال هي لله في يدي، أبلغ جواب أجابه أعرابي، اعتقِد جازماً أنَّ المال الذي بين يديك هو مال الله، وضَعه بين يديك واستخلفك على إنفاقه، فأنت يدُك على هذا المال يدُ أمانة وليست يد ملكية.
كل شيء حصَّلته في حياتك ليس لك هو لك ما دام قلبك ينبض:
ثم يقول الله عزَّ وجل:
﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)﴾
كل شيء حصَّلته في حياتك ليس لك، هذه الأموال لك ما دام القلب ينبض، هذه الأموال لك ما دام الدم سائل، هذه الأموال لك ما دام نمو الخلايا طبيعي، إن نَمَت نمواً عشوائياً انتقلت إلى غيرك، وإن تجمَّد الدم في القلب أصبح جلطةً واحتشاءً فمات، وإن توقف القلب عن النبض سكتةٌ قلبية، انتهى المال، كل هذه الأموال ليست لك (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .
هذا المال في النهاية لله عزَّ وجل، أعرف رجُلاً له قريبٌ ترك ألف مليون في الشام، نصيبه من هذا المبلغ تسعون مليوناً، أغلق محله التجاري ومشى في متابعة معاملة الإرث، ستة أشهر يومياً سكن دوائر الدولة، وهو في الحمَّام وافته المنية قبل أن يقبض قرشاً واحداً (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .
تسمية العمل الخيري عملاً إرهابياً من قِبل الكافر:
هناك شيءٌ آخر، نحن أحياناً نستمع إلى إجراءاتٍ جديدة، العمل الخيري عملٌ إرهابي، لذلك:
﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا ۗ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)﴾
يُسمّوه الآن تجفيف منابع الجمعيات الخيرية، تجفيف منابعها، عدم الإنفاق، وحظر الإنفاق في العالم الغربي دليل لؤمٍ، هذا شأن الكافر دائماً.
﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)﴾
العاقل من أنفق ماله في سبيل الله قبل فوات الأوان:
ويقول الله عزَّ وجل:
﴿ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10)﴾
يأتي الجواب:
﴿ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)﴾
قبل أن تندم، قبل فوات الأوان.
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ:
ومرةً ثانية:
﴿ لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)﴾
ومرةً ثالثة:
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)﴾
هناك اعتدالٌ بالإنفاق.
ومرةً رابعة:
﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)﴾
والله أعرف مؤمنين، حينما يرى إنساناً بحاجةٍ ماسَّة، والله يقترض ويُقدِّم له هذه الحاجة، مع أنه غير مُكلَّفٍ هو، هذا عملٌ خاص، موقفٌ خاص (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) .
الله عز وجل يعطي الإنسان على قدر بذله:
أمّا:
﴿ وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ۗ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)﴾
أمام الناس يُنفِق، له قريبٌ يكاد يموت من الجوع لا يُعطيه شيئاً، هذا القريب إذا أعطاه لا أحد يعلم به، أمّا أمام جمهورٍ من الناس، حتى يُقال مُحسنٌ كبير، يحتاج إلى رخامة، شخصٌ من المُحسنين في بلدٍ إسلامي دفع ثلاثمئة مليون دولار، فسمع به أحد علماء دمشق وكان في زيارة هذا البلد، تمنّى أن يلتقي به، فشخصٌ دعاهم إلى طعام الإفطار، فجاء هذا العالِم الدمشقي وانتظر، ما كان يأتي هذا المُحسن، فسأل عنه وقال: لم يأتِ؟ قالوا له: إنه جالسٌ إلى جانبك! لم ينتبه له من كثرة تواضعه، والله هذه البلد مباركة، والله فيها محسنون الله عزَّ وجل أدعو لهم أن يكونوا في أعلى عليين، والله هناك بذلٌ في هذا البلد يفوق حدّ الخيال.
أنا سمعت أنه في مجتمعٍ جمعوا نفراً من المُحسنين لصندوق العافية، هناك مستشفى قُدِّمت لهم كهديةٍ على الهيكل، تحتاج إلى مليار ونصف، خلال ساعاتٍ دُفع نقداً وعيناً حوالي ثلاثمئة مليون، في هذا البلد، هذه بشارةٌ لهذا البلد.
(( إنِّي رَأيتُ كأنَّ عَمودَ الكِتابِ انتُزِعَ مِن تَحتِ وِسادتي، فأَتبَعْتُه بَصري، فإذا هوَ نورٌ ساطِعٌ، عُمِدَ به إلى الشَّامِ، ألَا وإنَّ الإيمانَ إذا وَقَعَتِ الفِتنُ بِالشَّامِ. ))
[ أخرجه أحمد والطبراني والحاكم ]
(( عليكم بالشَّامِ، فإنَّها صفْوةُ بلادِ اللهِ، يَسكُنُها خِيرتُهُ من خلْقِهِ، فمَنْ أبَى فلْيلْحَقْ بيمَنِه، ولْيَسْقِ من غُدُرِهِ، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ تكفَّلَ لِي بالشَّامِ وأهْلِهِ ))
هذا الجامع المتواضع والله الناس لا يُصدِّقون، أعلى رقم يُجمع في دمشق لصندوق العافية، فالله عزَّ وجل يُعطي على قدر البذل.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾
إيّاك أن تُنفِق المال في طريقٍ لا يرضي الله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) .
الود بين المؤمنين يصنعه الإيمان لا يصنعه الإنفاق:
أيُّها الإخوة: لكن الودّ بين المؤمنين يصنعه الإيمان لا يصنعه الإنفاق.
﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)﴾
الحديث القدسي الشريف:
(( قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: يا ابْنَ آدَمَ أنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ وقالَ يَمِينُ اللهِ مَلأَى، وقالَ ابنُ نُمَيْرٍ مَلآنُ، سَحّاءُ لا يَغِيضُها شيءٌ اللَّيْلَ والنَّهارَ ))
(( منْ أنفقَ نفقةً في سبيلِ اللهِ، كتبتْ له سبعمائةُ ضعفٍ ))
[ أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد ]
(( إنَّ المُسْلِمَ إذا أنْفَقَ علَى أهْلِهِ نَفَقَةً، وهو يَحْتَسِبُها، كانَتْ له صَدَقَةً ))
(أنفق بلال، ولا تخشَ من ذي العرش إقلالا) .
أيُّها الإخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أنَّ ملَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا، وسيتخطَّى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، والحمد لله ربِّ العالمين.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
الصيام ثاني أكبر عبادة في الإسلام فعلى الإنسان أن يحرص عليه:
أيُّها الإخوة الكرام: لفت نظري في هذا الشهر الكريم، أنَّ الإنسان يُسارع إلى الإفطار في رمضان، قبل أن يتأكد من صحة إفطاره، الحديث الذي يقسِم الظهر:
(( مَن أَفطرَ يومًا من رمضانَ من غيرِ عُذْرٍ ولا مَرضٍ لَم يَقضِه صَومُ الدَّهرِ وإن صامَه ))
[ الألباني ضعيف الترغيب ]
لابُدَّ من أربعةٍ: طبيبٍ، مسلمٍ، حاذقٍ، ورع، يقول لك: أَفطِر وينبغي أن تُفطِر، أمّا من غير رخصة، ومن غير مرض، تهاون أعوذ بالله، هذا الصيام ثاني أكبر عبادة في الإسلام.
اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافِنا فيمَن عافيت، وتولّنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقِنا واصرِف عنّا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذل مَن واليت ولا يعز من عاديت، تباركت ربّنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك.
اللهم هب لنا عملاً صالحاً يُقربنا إليك.
اللهم اعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تُهنّا، آثرنا ولا تؤثِر علينا، ارضنا وارضَ عنّا.
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا ربّ العالمين.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمَّن سواك.
اللهم لا تؤمنّا مكرك ولا تهتك عنّا سترك ولا تُنسنا ذكرك يا ربّ العالمين.
اللهم بفضلك ورحمتك أعلِّ كلمة الحق والدين، وانصُر الإسلام وأعزَّ المسلمين، وخُذ بيد ولاتهم إلى ما تُحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.
الملف مدقق